الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: أسرار البلاغة ***
وهو أن يكون للمعنى من المعاني والفعلِ من الأفعال علّةٌ مشهورة من طريق العادات والطباع، ثم يجيءُ الشاعر فيمنع أن تكون لتلك المعروفة، ويضع له عِلَّةً أخرى، مثاله قول المتنبي: مَا بِه قتلُ أعـاديه ولـكـن *** يتّقي إخلافَ ما تَرْجُو الذئابُ الذي يتعارفه الناس أن الرجل إذا قتل أعاديه فلإرادته هلاكَهم، وأن يدفع مضارَّهم عن نفسه، وليسلَم مُلكه ويصفُوَ من منازَعاتهم، وقد ادَّعى المتنبي كما ترى أن العِلةَ في قتل هذا الممدوح لأعدائه غير ذلك. واعلم أن هذا لا يكون حتى يكون في استئناف هذه العِلّة المدَّعاةِ فائدة شريفة فيما يتصل بالممدوح، ويكون لها تأثير في الذمّ، كقصد المتنبي هاهنا في أن يبالغ في وصفه بالسَّخاء والجود، وأَنّ طبيعةَ الكرمِ قد غلبت عليه، ومحبَّته أن يُصدِّق رجاء الراجين، وأن يجنِّبهم الخيبة في آمالهم، قد بلغت به هذا الحدَّ، فلما علم أنه إذا غدا للحرب غَدَت الذئاب تتوقّع أن يتسع عليها الرزق، ويُخْصِب لها الوقت من قَتْلَى عداه، كَرِهَ أن يُخْلِفها، وأن يخيِّبَ رجاءهَا ولا يُسعِفُها، وفيه نوع آخر من المدح، وهو أنه يهزم العِدَى ويكسِرهم كسراً لا يطمَعون بعده في المعاوَدة، فيستغني بذلك عن قَتْلَهم وإراقة دمائهم، وأنه ليس ممن يُسْرف في القتل طاعةً للغَيْظ والحَنَق، ولا يعفو إذا قَدَر، وما يُشبه هذه الأوصاف الحَميدة فاعرفه. ومن الغريب في هذا الجنس على تَعَمُّقٍ فيه، قول أبي طالب المأموني في قصيدة يمدح بها بعض الوزراء بِبُخارى: مُغرَمٌ بالثناءِ صَبٌّ بكسـب ال *** مَجْدِ يهتزُّ للسَّماح ارتـياحَ لا يَذُوق الإغفـاءَ إلاّ رجـاءً *** أن يَرَى طيفَ مسْتَمِيحٍ رَوَاحَا وكأنه شَرَطَ الرّواح على معنى أن العُفاة والرَّاجين إنّما يَحْضُرونه في صَدْر النهار على عادة السلاطين، فإذا كان الرواح ونحوه من الأوقات التي ليست من أوقاتِ الإذن قَلُّوا، فهو يشتاق إليهم فينام ليأنس برُؤية طيفهم، والإفراط في التعمّق ربما أخلَّ بالمعنى من حيث يُرَاد تأكيدُه به، ألا تَرى أن هذا الكلام قد يُوهم أنه يحتجّ له أنه ممن لا يرغب كل واحد في أخْذِ عطائه، وأنه ليس في طبقة من قيل فيه: عَطاؤُك زَينٌ لامرئٍ إن أَصبتَه *** بخير وما كُلّ العَطـاءِ يَزِينُ وممّا يدفع عنه الاعتراض ويُوجب قلّةَ الاحتفال به، أن الشاعر يُهِمُّه أبداً إثبات ممدوحه جواد وتوّاقاً إلى السُّؤَّال فرِحاً بهم، وأن يُبَرِّئه من عبوس البخيل وقطوب المتكلِّف في البذل، الذي يقاتل نفسه عن مالِه حتى يُقال جوادٌ، ومَنْ يهوى الثَّناء والثّراء معاً، ولا يتمكَّن في نفسه معنى قولِ أبي تمام: وَلَمْ يجتمع شَرقٌ وغربٌ لقـاصـدٍ *** ولا المجدُ في كفِّ امرئٍ والدراهمُ فهو يُسرع إلى استماع المدائح، ويُبطئ عن صِلة المادح، نعم، فإذا سُلِّم للشاعر هذا الغرض، لم يفكر في خَطَرات الظنون. وقد يجوز شيءٌ من الوَهْم الذي ذكرتُه على قولِ المتنبي: يُعطي المُبشِّرَ بالقُصَّاد قَبْلَهُم *** كمن يُبشِّره بالماء عطشانَ وهذا شيءٌ عَرَضِ، ولاستقصائه موضعٌ آخرُ، إن وفَّق اللّه. وأصل بيت الطيف المستميح، من نحو قوله: وَإنّي لأسْتَغْشِي وما بِيَ نَعْسةٌ *** لعلَ خيالاً منكِ يَلْقَى خيالـيَ وهذا الأصل غير بعيد أن يكون أيضاً من باب ما استُؤنف له علّةٌ غير معروفة، إلاّ أنه لا يبلغ في القوة ذلك المبلغ في الغرابة والبعد من العادة، وذلك أنه قد يُتصوَّر أن يُريد المُغرَمُ المتيَّم، إذا بَعُدَ عهده بحبيبه، أن يراه في المنام، وإذا أراد ذلك جاز أن يريد النوم له خاصَّةً فاعرفه. ومما يلحق بهذا الفصْل قوله: رَحَل العزاءُ برحْلَتي فكأنني *** أتبعتُه الأَنفاسَ للتـشـييعِ وذلك أنه علّل تصعُّد الأَنفاس من صدره بهذه العلة الغريبة، وترك ما هو المعلوم المشهور من السبب والعلة فيه، وهو التحسّر والتأسّف، والمعنى: رحل عنِّي العزاء بارتحالي عنكم، أي: عنده ومعه وبه وبسببه، فكأنه لما كان محلّ الصبر الصَّدْر، وكانت الأنفاس تتصعّد منه أيضاً، صار العزاءُ وتنفُّس الصَّعَداء كأنهما نزيلان ورفيقان، فلما رحل ذاك، كان حقّ هذا أن يشيّعه قضاءً لحق الصُّحبة. ومما يلاحِظُ هذا النوع، يجري في مسلكه ويَنْتظم في سِلْكه، قولُ ابن المعتز: عاقبتُ عَيْني بالدَّمع والسَّهَـر *** إذ غار قلبي عَلَيك من بَصَري وَاحتملتْ ذاك وهـي رَابـحةٌ *** فيكَ وفازت بلذَّة الـنّـظـرِ وذاك أن العادة في دمع العين وسَهرها أن يكون السببَ فيه إعراضُ الحبيب، واعتراض الرقيب، ونحو ذلك من الأسباب المُوجِبة للاكتئاب، وقد ترك ذلك كله كما تَرَى، وادّعى أن العلة ما ذكره من غَيْرةِ القلب منها على الحبيب وإيثارِه أن يتفرَّد برؤيته، وأنه بطاعة القلب وامتثال رَسْمه، رامَ للعين عقوبةً، فجعل ذاك أن أبكاها، ومَنَعها النوم وحماها، وله أيضاً في عقوبة العين بالدَّمع والسهر، من قصيدة أوّلها: قُلْ لأَحلَى العباد شِكـلاً وقـدَّا *** أَبجِدٍّ ذَا الهجرُأمْ لـيس جِـدَّ ما بِذَا كانت المُنَى حدَّثَتْـنـي *** لَهْفَ نفسي أَراك قد خُنتَ ودَّا ما تَرَى في مُتَيَّمٍ بـكَ صَـبٍّ *** خاضِعٍ لا يرى من الذُلِّ بُـدَّ إن زَنَتْ عينُه بغيرك فاضربْ *** ها بطُول السُهاد والدَّمْع حَدَّ قد جعل البكاءَ والسهاد عقوبةً على ذنبِ أَثبته للعين، كما فعل في البيت الأول، إلا أنّ صورة الذنب هاهنا غير صورته هناك، فالذنب هاهنا نَظَرُها إلى غير الحبيب، واستجازتُها من ذلك ما هو محرَّم محظور والذنب هناك نظَرُها إلى الحبيب نفسه، ومزاحمتها القلب في رؤيته، وغَيْرةُ القلب من العين سببُ العقوبة هناك، فأمّا هاهنا فالغيرة كائنة بين الحبيب وبين شخصٍ آخر فاعرفه. ولا شُبْهة في قصور البيت الثاني عن الأول، وأنّ للأوّل عليه فضلاً كبيراً، وذلك بأن جعل بعضَه يغار من بعض، وجعل الخصومة في الحبيب بين عينيه وقلبه، وهو تمام الظَّرْف واللطف، فأمّا الغيرة في البيت الآخر، فعلى ما يكون أبداً، هذا ولفظ زَنَتْ، وإن كان ما يتلوها من أحكام الصنعة يُحَسّنها، وورودُها في الخبر العينُ تزني، ويؤنِس بها، فليست تَدَعُ ما هو حكمها من إدخال نُفْرةٍ على النفس. وإن أردت أن ترى هذا المعنى بهذه الصنعة في أعجب صورة وأظرفها، فانظر إلى قول القائل: أَتتني تُؤَنِّبني بـالـبـكـا *** فأهلاً بهَا وبتأنِـيبـهَ تقولُ وفي قولها حِشْـمةٌ *** أتبكي بعَيْنٍ تراني بـه فقلت إذا استحسنتْ غيرَكم *** أمرتُ الدُّموع بتأديبـه أعطاك بلفظة التأديب، حُسْنَ أدب اللبيب، في صيانة اللَّفظ عما يُحرج إلى الاعتذار، ويؤدّي إلى النِّفار، إلا أن الأُستاذية بعدُ ظاهرةٌ في بيت ابن المعتز، وليس كل فضيلة تبدُو مع البديهة، بل بعَقِب النَّظرِ والرويَّة، وبأن يفكَّر في أول الحديث وآخره، وأنت تعلم أنه لا يكون أبلغ في الذي أراد من تعظيم شأن الذنب، من ذكر الحدّ، وأنّ ذلك لا يتمّ له إلاّ بلفظة زنت، ومن هذه الجهة يلحَقُ الضَّيْمُ كثيراً من شأنُه وطريقُه طريقُ أبي تمام، ولم يكن من المطبوعين، وموضعُ البَسْط في ذلك غير هذا فَغَرَضي الآن أن أُرِيَك أنواعاً من التخييل، وأضَعَ شِبْهَ القوانين ليُستعان بها على ما يُراد بعدُ من التفصيل والتبيين. وهذا نوع آخر من التخييل، وهو يرجع إلي ما مضى من تناسي التَّشبيه وصرف النفس عن توهُّمه، إلا أنَّ ما مضى مُعلَّل، وهذا غير معلّل، بيان ذلك أنهم يستعيرون الصِّفة المحسوسة من صفات الأشخاص للأوصاف المعقولة، ثم تراهم كأنهم قد وجدوا تلك الصفة بعينها، وأدركوها بأعينهم على حقيقتها، وكأنّ حديث الاستعارة والقياس لم يجرِ منهم على بال ولم يرَوْه ولا طيفَ خَيال. ومثالُه استعارتُهم العلوَّ لزيادة الرجل على غيره في الفضل والقدر والسلطان، ثم وَضْعُهم الكلام وضعَ من يذكر علُواً من طريق المكان، ألا ترى إلى قول أبي تمام: ويَصْعَدُ حَتَّى يظُنَّ الجَهولُ *** بأنّ لَهُ حاجةً في السماءِ فلولا قصده أن يُنْسِيَ الشبيه ويرفعَه بجهده، ويُصمِّم على إنكاره وجَحْده، فيجعله صاعداً في السماء من حيث المسافة المكانية، لمَا كان لهذا الكلام وجهٌ. ومن أبلغ ما يكون في هذا المعنى قول ابن الرومي: أعْلَمُ الناسِ بالنجومِ بَنُـو نُـو *** بَخْتَ عِلماً لم يَأْتهم بالحِسـابِ بَلْ بَأنْ شاهدُوا السَّماءَ سُمُـوّاً *** بِتَرَقٍّ في المكرماتِ الصِّعابِ مبلغٌ لم يكُنْ ليبلُغَـه الـطـا *** لِبُ إلاّ بتِلـكُـمُ الأسْـبـابِ وأعاده في موضع آخر، فزاد الدعوى قُوَّةً، ومرّ فيها مرورَ من يقول صِدقاً ويذكر حقّاً: يا آل نُوبَخْتَ لا عَدِمتُـكُـم *** ولا تَبدَّلْتُ بعـدكـم بَـدَلاََ إن صَحَّ علمُ النجوم كان لكم *** حقًّاٍ إذا ما سواكُمُ انتحـلاَ كَمْ عالمٍ فيكُم وَلَـيْس بـأنْ *** قاس ولكن بأن رَقِي فَعَلاَ أعلاكُمُ في السماء مَجدُكـمُ *** فلستمُ تَجْهلون مَا جُـهِـلاَ شافَهْتُم البدرَ بالسُّؤال عن ال *** أَمْرِ إلى أن بلغتُـمُ زُحَـلاَ وهكذا الحكم إذا استعاروا اسمَ الشيء بعينه من نحو شمس وبدر وبحر وأسد، فإنهم يبلغون به هذا الحدّ، ويصوغون الكلام صياغاتٍ تقضي بأن لا تشبيه هناك ولا استعارة، مثاله قوله: قامت تظلِّلني من الشمس *** نفسٌ أعزُّ عليَّ من نَفْسِي قامت تظلِّلني ومن عَجَبٍ *** شمسٌ تُظَلِّلني من الشَّمس فلولا أنه أنْسَى نفسَهُ أن هاهنا استعارةً ومجازاً من القول، وعَمِلَ على دعوى شمس على الحقيقة، لما كان لهذا التعجّب معنًى، فليس ببِدْعٍ ولا مُنكَر أن يظلِّلَ إنسانٌ حسن الوجه إنساناً ويَقِيه وَهَجاً بشخصه. وهكذا قول البحتري: طَلَعْتَ لهم وَقْتَ الشُّروق فعَـايَنُـوا *** سَنَا الشّمسِ من أُفْقٍ ووَجْهَك من أُفْقِ وما عَاينُوا شمسين قبلهما الْـتَـقَـى *** ضياؤُهما وَفْقاً من الغَرْب الشَّـرْقِ معلوم أن القصد أن يُخرج السامعين إلى التعجّب لرؤية ما لم يروه قط، ولم تَجْرِ العادة به، ولم يتمَّ للتعجُّب معناه الذي عناه، ولا تظهر صورته على وصفها الخاصّ، حتى يجترئ على الدَّعوى جُرْأةَ من لا يتوقف ولا يَخشى إنكارَ مُنْكرٍ، ولا يَحْفِل بتكذيب الظاهر له، ويسُوم النفس، شاءَت أمْ أَبَتْ، تصوُّرَ شَمْسٍ ثانية طلعت من حيث تغرب الشمس، فالتقتَا وَفْقاً، وصار غرْب تلك القديمة لهذه المتجددةِ شرقاً. ومدارُ هذا النوع في الغالب على التعجُّب، وهو والي أمره، وصانع سِحْره، وصاحب سرّه، وتراه أبداً وقد أفضى بك إلى خِلابةٍ لم تكن عندك، وبرز لك في صورة ما حسبتها تظهر لك، ألا ترى أن صورة قوله شمس تظللني من الشمس، غير صورة قوله وما عاينوا شمسين، وإن اتَّفق الشعران في أنهما يتعجّبان من وجود الشيء على خلاف ما يُعقَل ويُعرَف. وهكذا قول المتنبي: كَبَّرتُ حَوْلَ دِيارهم لـمّـا بَـدَت *** منها الشُّموسُ وليسَ فيها المشرقُ له صورةٌ غير صورة الأوَّلين. وكذا قوله: ولم أَر قَبْلي مَنْ مَشَى البدرُ نحوهُ *** ولا رَجُلاً قَامت تُعانقُه الأُسْـدُ يعرض صورة غير تلك الصُّوَر كلها، والاشتراك بينها عامّيٌّ لا يدخل في السَّرِقة، إذ لا اتِّفاق بأكثر من أن أثبت الشيء في جميع ذلك على خلاف ما يعرفه الناس، فأمّا إذا جئت إلى خصوصٍ ما يخرج به عن المتعارف، فلا اتفاق ولا تناسُب، لأن مكان الأعجوبة مرّةً أن تظلل شمسٌ من الشمس، وأخرى أن يُرَى للشمس مِثْلٌ لا يطلع من الغرب عند طلوعها من الشرق، وثالثةً أن تُرَى الشموس طالعةً من ديارهم، وعلى هذا الحد قوله ولم أرَ قبلي مَن مَشَى البدر نحوه، العجب من أن يمشيَ البدر إلى آدميٍّ، وتُعانِقَ الأسْد رجُلاً. واعلم أن في هذا النوع مذهباً هو كأنه عكس مذهب التعجب ونقيضُه، وهو لطيف جدّاً، وذلك أن يُنظر إلى خاصيَّة ومعنًى دقيقٍ يكون في المشبَّه به، ثم يُثَبِّت تلك الخاصيّة وذلك المعنى للمشبّه، ويُتوصَّل بذلك إلى إيهام أن التشبيه قد خرج من البَيْن، وزال عن الوَهْم والعين أحسنَ توصُّلٍ وألطفَه، ويقام منه شِبهُ الحجّة على أنْ لا تشبيهَ ولا مجازَ، ومثال قوله: لاَ تَعْجَبُوا من بِلَى غِلاَلتـه *** قد زرَّ أَزْرَاره على القمَر قد عمد، كما ترى إلى شيء هو خاصية في طبيعةِ القمر، وأمرٌ غريب من تأثيره، ثم جَعلَ يُرِى أن قوماً أنكروا بِلَى الكتّان بسُرعة، وأنه قد أخذ ينهاهم عن التعجُّب من ذلك ويقول أما ترونه قد زرَّ أزرارَه على القمر، والقمرُ من شأنه أن يُسْرِع بِلَى الكتان، وغرضه بهذا كله أن يُعلِم أن لا شكَّ ولا مِريَة في أن المعاملة مع القمر نفسِهِ، وأن الحديث عنه بعينه، وليس في البَين شيءٌ غيره، وأن التشبيهَ قد نُسي وأُنْسيَ، وصار كما يقول الشيخ أبو عليّ فيما يتعلق به الظرف: إنّه شريعَةٌ منسوخة. وهذا موضعٌ في غاية اللُّطْفِ، لا يَبين إلا إذا كان المتصفِّح للكلام حسَّاساً، يعرف وَحْي طَبْع الشعر، وخفيَّ حركته التي هي كالخَلْسِ، وكَمَسْرَى النّفْسِ في النّفْس. وإن أردت أن تظهرَ لك صحّةُ عزيمتهم في هذا النحو على إخفاءِ التشبيه ومَحْوِ صورته من الوهم، فأبرِزْ صفة التَّشبيه، واكشفْ عن وجهه، وقُلْ لا تعجبوا مِن بِلى غِلاَلته، فقد زرَّ أزرارَهُ على مَنْ حُسْنُه حسنُ القمر، ثم انظر هل ترى إلاّ كلاماً فاتراً ومعنًى نازلاً، واخبُرْ نفسك هل تجد ما كنت تجده من الأريحيّة? وانظر في أعين السامعين هل ترى ما كنت تراه من ترجمةٍ عن المسرَّة، ودِلاَلةٍ على الإعجاب? ومن أين ذلك وأنَّى وأنت بإظهار التشبيه تُبطل على نفسك ما له وُضِعَ البيتُ من الاحتجاج على وُجوب البِلَى في الغلالة، والمَنْعِ من العجب فيه بتقرير الدِّلالة. وقد قال آخر في هذا المعنى بعينه، إلاّ أن لفظه لا يُنبئ عن القوة التي لهذا البيت في دعوى القمر، وهو قوله: تَرَى الثِّياب من الكَتَّان يلمَحُهـا *** نُورٌ من البدر أحياناً فيُبْلـيهَ فكيف تُنكر أَن تَبْلَى مَعَاجرُهـا *** والبدرُ في كل وقتِ طَالِعٌ فيها ومما ينظر إلى قوله قد زرَّ أزراره على القمر، في أنه بلغ بدعواه في المجاز حقيقةً، مبلغَ الاحتجاج به كما يُحتجُّ بالحقيقة، قولُ العبّاس بن الأحنف: هِيَ الشَّمْسُ مَسْكَنُها في السماء *** فَعَزِّ الفؤادَ عَـزاءً جـمـيلاَ فلن تَسْتطيع إليهَا الصُّـعـودَ *** ولن تستطيعَ إليكَ الـنُـزولاَ صورة هذا الكلام ونِصْبَته والقالب الذي فيه أُفْرِغ، يقتضي أن التشبيه لم يَجْرِ في خَلَده، وأنه معه كما يقال: لستُ منه وليسَ مِنّي، وأن الأمر في ذلك قد بلغ مبلغاً لا حاجة معه إلى إقامة دليل وتصحيح دعوى، بل هو في الصِّحّة والصدق بحيث تُصحَّح به دعوى ثانيةٌ، ألا تراه كأنه يقول للنفس ما وَجْهُ الطمع في الوصول وقد علمت أن حديثك مع الشمس، ومَسْكَنُ الشمس السماء؛ أفلا تراه قد جعل كونها الشَّمس حُجَّةً له على نفسه، يصرفها بها عن أن ترجو الوصول إليها، ويُلْجِئُها إلى العزاء، ورَدَّها في ذلك إلى ما لا تشكُّ فيه، وهو مستقرٌّ ثابت، كما تقول: أوَما علمت ذلك? وأليس قد علمت?، ويُبَيِّن لك هذا التفسيرَ والتقريرَ فضلَ بيانٍ بأن تُقابل هذا البيت بقول الآخر: فقلتُ لأصْحابِي هي الشمسُ ضَوْءُها *** قريبٌ ولكن في تَنَاوُلِـهـا بُـعْـدُ وتتأمَّلْ أمر التشبيه فيه، فإنك تجده على خلاف ما وصفتُ لك، وذلك أنه في قوله فقلت لأصحابي هي الشمس، غيرُ قاصد أن يجعل كَوْنَها الشمسَ حُجَّةً على ما ذكر بعدُ، من قرب شخصها ومثالها في العين، مع بُعد منالها بل قال هي الشمس، وهكذا قولاً مرسلاً يُومِئُ فيه بل يُفصِح بالتشبيه، ولم يُرد أن يقول لا تعجبوا أن تَقْرُب وتَبْعُد بعد أن علمتم أنها الشمس، حتى كأَنه يقول: ما وَجْهُ شكّكِم في ذلك?، ولم يشكّ عاقلٌ في أن الشمس كذلك، كما أراد العباس أن يقول: كيف الطمع في الوُصول إليها مع عِلْمِك بأنها الشمس، وأن الشمسَ مَسْكنُها السماءُ، فبيت ابن أبي عيينة في أنْ لم ينصرف عن التشبيه جملةً، ولم يَبْرُز في صورة الجاحد له والمتبرّئ منه، كبيت بشَار الذي صرَّح فيه بالتشبيه، وهو: و كبَدْر السَّماءِ غـيرُ قـريبٍ *** حِين يُوفِي والضوءُ فيه اقترابُ وكبيت المتنبي: كأنَّها الشمس يُعيي كفَّ قابضِهِ *** شُعاعُها ويَرَاه الطَّرْفُ مُقْتربَ فإن قلت فهذا من قولك يؤدِّي إلى أن يكون الغَرَض من ذكر الشمس، بيانَ حال المرأة في القُرب من وجهٍ ، والبعدِ من وجهٍ آخر، دون المبالغة في وصفها بالحسن وإشراق الوجه، وهو خلافُ المعتاد، لأن الذي يَسْبق إلى القلوب، أن يُقْصدَ من نحو قولنا هي كالشمسِ وهي شمسٌ، الجمالُ والحُسْن والبهاء. فالجواب إنّ الأمرَ وإن كان على ما قلتَ، فإنه في نحو هذه الأحوال التي ُقصَد فيها إلى بيان أمرٍ غير الحُسن، يصير كالشيء الذي يُعقل من طريق العُرْف، وعلى سبيل التَّبَع، فأما أن يكون الغرضُ الذي له وُضع الكلام فلا وإذا تأمّلت قوله فقلت لأصحابي هي الشمس ضوءُها قريبٌ، وقولَ بشار: أو كبدر السماء، وقولَ المتنبي: كأنها الشَّمس، علمتَ أنهم جعلوا جُلَّ غَرَضهم أن يُصِيبوا لها شبهاً في كونها قريبة بعيدةً، فأما حديث الحُسن، فدخل في القصد على الحدِّ الذي مضى في قوله، وهو للعباس أيضاً: نِعْمةٌ كالشّمس لمَّا طَلَعت *** بَثَّت الإشراقَ في كُلّ بَلَدْ فكما أن هذا لم يضع كلامه لجعل النعم كالشمس في الضِّياء والإشراق، ولكن عَمَّت كما تعمُّ الشمس بإشراقها كذلك لم يضع هؤلاء أبياتهم على أن يجعلوا المرأة كالشمس والبدرِ في الحسن ونورِ الوجه، بل أَمُّوا نحو المعنى الآخر، ثم حَصَل هذا لهم من غير أن احتاجوا فيه إلى تجشُّمٍ، وإذا كان الأمر كذلك، فلم يقُل إن النعمة إنما عمّت لأنها شمس، ولكن أراك لعمومها وشمولها قياساً، وتحرَّى أن يكون ذلك القياس من شيء شَرِيف له بالنعمة شبهٌ من جهة أوصافه الخاصّة، فاختار الشمس، وكذلك لم يُرد ابن أبي عيينة أن يقول إنها إنما دَنت ونَأت لأنها شمس، ولأنها الشمس، بل قاس أمرها في ذلك كما عرّفتُك. وأمّا العبّاس فإنه قال إنها إنما كانت بحيث لا تُنال، ووجب اليأس من الوصول إليها، لأجل أنها الشمس فاعرفه فرقاً واضحاً. ومما هو على طريقة بيت العبّاس في الاحتجاج، وإن خالفه فيما أذكره لك، قول الصابئ في بعض الوزراء يهنّئه بالتخلُّص من الاستِتار: صَحَّ أنَّ الوزيرَ بدرٌ مُـنـيرٌ *** إذ تَوَارَى كما تَوَارَى البدورُ غَاب لا غَابَ ثُمَّ عاد كما كـا *** نَ على الأُْفْقِ طالعاً يستنيرُ لا تسَلْني عن الوزير فقد بَيَّ *** نْتُ بالوصف أنه سَـابـورُ لا خَلاَ منه صدرُ دَسْتٍ إذا ما *** قَرَّ فيه تَقِرُّ منه الـصـدورُ فهو كما نراه يحتجّ أن لا مجازَ في البين، وأنَّ ذكر البدر وتسميةَ الممدوح به حقيقة،واحتجاجُه صريحٌ لقوله صح أنه كذلك، وأما احتجاج العبّاس وصاحبه في قوله قد زرَّ أزرَارهُ على القَمر، فعلى طريق الفَحْوى، فهذا وَجهُ الموافقة، وأما وَجْهُ المخالفة، فهو أنَّهما ادّعيا الشَّمس والقَمَر بأنفسهما، وادَّعى الصابئ بدراً، لا البدر على الإطلاق. ومن ادّعاه الشمس على الإطلاق قولُ بشَّار: بَعَثْتُ بِذكْرها شِعري *** وقَدَّمتُ الهَوَى شَرَكَا فلمَّا شاقَها قَـولـي *** وشَبَّ الحبُّ فاحْتَنَكَ أتتني الشمـسُ زائرةً *** ولم تكُ تبرَحُ الفَلَكَ وَجَدتُ العيش في سُعدَى *** وكان العَيْشُ قد هَلَكَ فقوله ولم تك تَبرَحُ الفَلَكا، يريك أنه ادَّعى الشمس نفسها، وقال أشجع يرثي الرشيد، فبدأ بالتعريف، ثم نكّر فخلَط إحدى الطريقتين بالأخرى، وذلك قوله: غَرَبَتْ بالمشرق الشـم *** سُ فقُلْ للعين تدمـعْ ما رَأَيْنا قَطُّ شَمـسـاً *** غَرَبت من حَيْثُ تطلعْ فقوله غربت بالمشْرق الشمسُ على حدّ قول بشار: أتتني الشمس زائرةً، في أنه خيّل إليك شمس السماء، وقوله بعد ما رأينا قَطّ شمساً، يُفتِّر أمرَ هذا التخييل، ويميل بك إلى أن تكون الشمس في قوله: غربت بالمشرق الشمس، غير شمس السماءِ، أعني غير مدَّعى أنها هي، وذلك مما يضطرب عليه المعنى وَيقْلَق، لأنه إذا لم يدَّع الشمسَ نفسها، لم يجب أن تكون جهة خراسان مَشْرِقاً لها، وإذا لم يجب ذلك، لم يحصل ما أراده من الغرابة في غروبها من حيث تطلع، وأظُنُّ الوجهَ فيه أن يُتأوّل تنكيره للشمس في الثاني على قولهم: خرجنا في شمس حارّة، يريدون في يوم كانَ للشمس فيه حرارة وفضلُ توقُّد، فيصير كأنه قال: ما عهدنا يوماً غَرَبت فيه الشمس من حيث تطلع، وهوت في جانب المشرق، وكثيراً ما يتفِق في كلام الناس ما يُوهم ضرباً من التنكير في الشمس كقولهم: شَمْسٌ صيفية، وكقوله: واللَّه لا طَلَعت شمسٌ ولا غربت ولا فرق بين هذا وبين قول المتنبي: لم يُرَ قَرْنُ الشَّمْسِ في شرْقِه *** فشكَّت الأنفسُ في غَرْبـهِ ويجيءُ التنكير في القمر والهلال على هذا الحدّ، فمنه قول بشّار: أمَلي لا تأتِ في قَمَرٍ *** بحديثٍ واتَّق الدُّرَعَ وتَوَقَّ الطيبَ لَيْلتَنـا *** إنَّه واشٍ إذا سَطَع فهذا بمعنى لا تأت في وقت قد طلع فيه القمر، وهذا قولُ عمر بن أبي ربيعة: وَغَاب قُميْرٌ كنتُ أرجُو غُيُوبَهُ *** وَرَوَّحَ رُعْيَانٌ ونَوَّمَ سُـمَّـرُ ظاهره يوهم أنه كقولك: جاءني رجل، وليس كذلك في الحقيقة، لأن الاسم لا يكون نكرة حتى يعمَّ شيئين وأكثر، وليس هنا شيئان يَعُمّهما اسم القمر. وهكذا قول أبي العتاهية: تُسرُّ إذا نظرتَ إلـى هـلالٍ *** ونَقْصُك إذْ نظرتَ إلى الهلالِ ليس المنكَّر غير المعرَّف، على أنّ للهلال في هذا التنكير فضلَ تمكُّنٍ ليس للقمر، ألا تراه قد جُمع في قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ} [البقرة: 189]، ولم يجمع القمر على هذا الحدّ. ومن لطيف هذا التنكير قول البحتري: وبَدْرَين أَنْضيْنَاهما بعد ثَالثٍ *** أكلْناه بالإيجاف حتى تَمَحَّقَّا ومما أتى مستكرهاً نابياً يتظلم منه المعنى وينكره، قولُ أبي تمام: قَرِيبُ النَّدَى نائِي المَحَلِّ كأنّه *** هِلالٌ قريبُ النُّورِ ناءٍ مَنازلُهْ سببُ الاستكراه، وأنّ المعنى ينبو عنه أنه يُوهم بظاهره أنّ هاهنا أهِلَّةً ليس لها هذا الحكم، أعني أنه ينأَى مكانهُ ويدنو نورُه، وذلك مُحالٌ فالذي يستقيم عليه الكلام أن يؤتى به معرَّفاً على حدّه في بيت البحتري: كالبدْرِ أفرط في العُلوِّ وضوءُه *** للعُصْبة السَّارين جِدُّ قـريب فإن قلت أَقْطَعُ وأستأنفُ فأقولُ: كأن هلال وأسكتُ، ثم أَبتدئُ وآخُذ في الحديث عن شأنِ الهلال بقولي قريب النور ناءٍ منازله أمكنك، ولكنك تعلم ما يشكوه إليه المعنى من نبوّ اللفظ به وسوء ملاءَمة العبارة، واستقصاءُ هذا الموضع يَقْطع عن الغرض وحقُه أنه يُفرَد له فصل. وأعود إلى حديث المجاز وإخفائه، ودعوى الحقيقة وحمل النفس على تخيُّلها، فممّا يدخل في هذا الفنّ ويجب أنْ يُوازَن بينه وبين ما مضى، قولُ سعيد بن حميد: وَعدَ البَدْرُ بـالـزيارة لَـيْلاً *** فإذَا مَا وَفَى قَضَيْتُ نُـذُوري قلتُ يا سيّدي ولِمْ تُؤثِر اللـي *** لَ على بَهْجة النهار المُنـيرِ قال لي لا أحِبُّ تغيير رَسْمي *** هكذا الرَّسْمُ في طلوع البُدورِ قالوا: وله في ضدّه: قلتُ زُوري فأرسلت *** أَنا آتيك سُـحـرَهْ قلتُ فالليل كـان أخْ *** فَى وأَدنَى مسَـرَّهْ فأجابـت بـحُـجَّةٍ *** زَادت القلبَ حَسْرهْ أَنا شمسٌ وإنـمـا *** تَطْلُع الشَّمسُ بُكْرَهْ وينبغي أن تعلم أنَّ هذه القطعة ضدُّ الأولى، من حيث اختار النهارَ وقتاً للزيارة في تلك، والليل في هذه، فأمّا من حيث يختلف جوهر الشعر ويتَّفق، وخصوصاً من حيث نَنْظر الآن، فمثلٌ وشبيهٌ، وليس بضدٍّ ولا نقيض. ثم اعلم أنّا إن وازنَّا بين هاتين القطعتين وبين ما تقدَّم من بيت العباس: هي الشمس مسكنها في السماء، وما هو في صورته، وجدنا أمراً بَيْن أمرين بين ادّعاء البدر والشمس أنْفُسهما، وبين إثبات بدر ثانٍ وشمسٍ ثانية، ورأينا الشعر قد شاب في ذلك الإنكارَ بالاعتراف، وصادَفْتَ صورة المجاز تُعرِضُ عنك مرَّةً، وتَعرِضُ لك أخرى، فقوله: البدرُ بالتعريف مع قوله لا أحبّ تغيير رسمي، وتركه أن يقول رَسْمَ مِثْلي، يُخيِّلُ إليك البدر نَفسَه، وقوله في طلوع البدور بالجمع دون أن يفرد فيقول هكذا الرسم في طلوع البدور يلتفت بك إلى بدر ثانٍ، ويُعطيك الاعترافَ بالمجاز على وجه، وهكذا القول في القطعة الثانية لأنّ قوله: أنا شمس بالتنكير اعترافٌ بشمس ثانية وكالاعتراف. ومما يدُلُّ دِلالةً واضحةً على دعوى الحقيقة، ولا يستقيم إلا عليها قولُ المتنبي: واستقبلَتْ قَمَرَ السماءِ بوَْجهها *** فأَرَتْنِيَ القَمرين في وقتٍ معَا أراد فأرتني الشمسَ والقمرَ، ثم غَلَّب اسمَ القمر كقول الفرزدق: أخذنا بآفاقِ السَّماء عليكُـمُ *** لنَا قَمَراها والنُّجوم الطوالعُ لولا أنه يُخيِّل الشمسَ نفسَها، لم يكن لتغليب اسم القمر والتعريف بالألف واللام مَعْنًى، وكذلك لولا ضبطُه نفسَه حتى لا يُجرِيَ المجازَ والتشبيه في وهْمه، لكان قوله في وقت معَا، لغواً من القول، فليس بعجيبٍ أن يتراءَى لك وَجْهُ غادةٍ حَسناءَ في وقت طلوع القمر وتوسُّطه السماء، هذا أظهر من أن يخفى. وأمَّا تشبيه أبي الفتح لهذا البيت بقول القائل: وإذا الغزالةُ في السماء ترفَّعتْ *** وبَدَا النهارُ لوَقْتِـه يتـرجَّـلُ أبْدَتْ لوجه الشمسِ وجهاً مثلَهُ *** تلقى السماءَ بمثل ما تستقبـلُ فتشبيهٌ على الجملة، ومن حيث أصل المعنى وصورته في المعقول، فأما الصُّورة الخاصّة التي تحدُث له بالصنعة فلم يَعْرِض لها. ومما له طبقة عالية في هذا القبيل وشكلٌ يدلُّ على شدَّة الشكيمة وعلوّ المأخذ، قولُ الفرزدق: أبي أحمدُ الغَيْثَين صَعْصعةُ الـذي *** متَى تُخْلِفِ الجوزَاءُ والدَّلوُ يُمطرِ أجارَ بناتِ الوائدين ومـن يُجِـرْ *** على المَوْتِ يُعلَمْ أنه غير مُخْفَرِ أفلا تراه كيف ادَّعى لأبيه اسم الغيث ادّعاءَ من سُلّم له ذلك، ومن لا يَخْطُر ببالِه أنه مجازٌ فيه، ومتناوِلٌ له من طريق التشبيه، وحتى كأنَّ الأمر في هذه الشهرة بحيث يقال: أيّ الغيثين أجود? فيقال صعصعة، ويقال الغيثان، فيُعْلم أنّ أحدهمَا صعصعة، وحتى بلغ تمكُّنُ ذلك في العُرف إلى أن يتوقّف السامع عند إطلاق الاسم، فإذا قيل: أتاك الغيث، لم يعلم أيُراد صعصعة أم المطر. وإن أردت أن تعرف مقدارَ ما له من القُوَّة في هذا التخييل، وأن مصدرَه مَصْدَرُ الشيء المُتَعارَف الذي لا حاجة به إلى مقدِّمة يُبنَى عليها نحوَ أن تبدأ فتقول: أبي نظيرُ الغيث وثانٍ له، وغيثٌ ثانٍ، ثم تقول: وهو خير الغيثين لأنه لا يُخْلِف إذا أَخلفت الأَنواء، فانظر إلى موقع الاسم، فإنك تراه واقعاً موقعاً لا سبيل لك فيه إلى حلِّ عَقْد التثنية، وتفريق المذكورَين بالاسم، وذلك أن أفعل لا تصحّ إضافته إلى اسمين معطوفٍ أحدُهما على الآخر، فلا يقال جاءَني أفضل زيد وعمرو، ولا إنَّ أعلمَ بكرٍ وخالدٍ عندي، بل ليس إلا أن تُضيف إلى اسم مثنًّى ومجموع في نفسه، نحو أفضل الرَّجلين، وأفضل الرجال، وذلك أنّ أفعل التفضيل بعضُ ما يضاف إليه أبداً، فحقّه أن يُضاف إلى اسمٍ يحويه وغيرَه، وإذا كان الأمر كذلك، علمتَ أنهَ اللَّفظ بالتشبيه، والخروجِ عن صريح جَعْلِ اللَّفظ للحقيقة متعذرٌ عليك، إذ لا يمكنك أن تقول: أبي أحمَدُ الغيثِ والثاني له والشبيه به، ولا شيئاً من هذا النحو، لأنك تقع بذلك في إضافة أفعل إلى اسمين معطوفٍ أحدهما على الآخر. وإذ قد عرفتَ هذا فانظر إلى قول الآخر: قد أقْحَطَ الناسُ في زمانِهمُ *** حتى إذا جئتَ جئتَ بالدِّرَرِ غَيْثَانِ في ساعةٍ لنا اتّفقـا *** فمرحباً بالأمير والمَطَـرِ فإنك تَرَاهُ لا يبلغ هذه المنزلة، وذلك أنه كلامُ مَن يُثبته الآنَ غيثاً ولا يدَّعي فيه عُرْفاً جارياً، وأمراً مشهوراً مُتعارفاً، يعلم كل واحدٍ منه ما يعلمه، وليس بمتعذِّر أن تقول غيثٌ وثانٍ للغيث اتفقا، وتقول الأميرُ ثاني الغيث والغيثُ اتّفقَا. فقد حصل من هذا الباب أن الاسم المستعارَ كلما كان قَدمُه أثبتَ في مكانه، وكان موضعه من الكلام أضَنَّ به، وأَشَدَّ محاماةً عليه، وأمنع لك من أن تتركه وترجعَ إلى الظاهر وتصرِّح بالتشبيه، فأمرُ التخييل فيه أقوى، ودعوى المتكلم له أظهر وأتَمُّ. واعلم أن نحوَ قول البحتري: غَيْثانِ إنْ جَدْبٌ تتابعَ أَقبلا *** وهما رَبيعُ مُؤَمِّلٍ وخَرِيفُهْ لا يكون مما نحن بصدده في شيء، لأنّ كلَّ واحدٍ من الغيثين في هذا البيت مجازٌ، لأنه أراد أن يشبِّه كل واحد من الممدوحَين بالغيث، والذي نحن بصَدَده، هو أن يُضَمَّ المجاز إلى الحقيقة في عَقْد التثنية، ولكن إن ضممتَ إليه قوله: فلم أَرَ ضِرغامَين أَصْدقَ منكما *** عِراكاً إذا الهَيَّابةُ النِكْسُ كَذَّب كان لك ذلك، لأن أحدَ الضرغامين حقيقةٌ والآخرُ مجازٌ. فإن قلت فهاهنا شيءُ يردُّك إلى ما أَبَيْتهُ من بقاءِ حُكم التشبيه في جعله أباه الغيث، وذلك أن تقدير الحقيقة في المجاز إنما يُتصوَّر في نحو بيت البحتري: فلم أرَ ضِرْغَامَين من حيث عَمَد إلى واحدٍ من الأسودِ، ثم جعل الممدوحَ أسداً على الحقيقة قد قَارَنَهُ وضامَّهُ، ولا سبيل للفرزدق إلى ذلك، لأن الذي يَقْرِنه إلى أبيه هو الغيث على الإطلاق، وإذا كان الغيثَ على الإطلاق، لم يبق شيءٌ يستحقّ هذا الاسم إلا ويدخل تحته، وإذا كان كذلك، حصل منه أن لا يكون أبو الفرزدق غيثاًً على الحقيقة، فالجواب أن مذهب ذلك ليس على ما تتوهّمه، ولكن على أصلٍ هو التشبيه، وهو أن يقصدَ إلى المعنى الذي من أجله يشبِّه الفرع بالأصل كالشجاعة في الأسد، والمضاء في السيف، وينحِّي سائرَ الأوصاف جانباً، وذلك المعنى في الغَيْث هو النّفْع العامّ، وإذا قُدّر هذا التقدير، صار جنس الغيث كأنه عينٌ واحدة وشيءٌ واحد، وإذا عاد بك الأمر إلى أن تتصوَّرَهُ تَصوُّرَ العين الواحدة دون الجنس، كان ضَمُّ أبي الفرزدق إليه بمنزلة ضمِّك إلى الشمس رجل وامرأةً تريد أن تبالغ في وصفهما بأوصاف الشمس، وتنزيلهما منزلتها، كما تجده في نحو قوله: فَلَيْتَ طالعةَ الشَّمسين غَـائِبةٌ *** وَلَيْتَ غَائبةَ الشَّمسينِ لم تغِبِ اعلم أن الاسم إذا قُصد إجراؤُه على غير ما هو له لمشابهة بينهما، كان ذلك على ما مضى من الوجهين: أحدهما أن تُسقط ذكر المشبَّه من البَيْنِ، حتى لا يُعلَم من ظاهر الحال أنك أردته، وذلك أن تقول عنَّت لنا ظبية، وأنت تريد امرأة، ووردنا براً، وأنت تريد الممدوح، فأنت في هذا النحو من الكلام إنّما تعرف أن المتكلم لم يُرد ما الاسمُ موضوعٌ له في أصل اللغة، بدليل الحال، وإفصاح المقال بعد السؤال، وبفحوَى الكلام وما يتلوه من الأوصاف، مثال ذلك أنك إذا سمعت قوله: تَرَنَّحَ الشَّرْبُ واغتَالتْ حُلومَهُمُ *** شَمسٌ تَرَجَّلُ فِيهم ثم ترتحلُ استدللتَ بذكر الشَّرْب، واغتيال الحلوم، والارتحال، أنه أراد قَيْنةً، ولو قال: ترجلت شمس، ولم يذكر شيئاً غيره من أحوال الآدميين، لم يُعقَل قطُّ أنه أراد امرأة إلا بإخبارٍ مُسْتَأْنَفٍ، وشاهدٍ آخَر من الشواهد، ولذلك تجد الشيءَ يلتبس منه حَتَّى على أهل المعرفة، كما روى أن عديَّ بن حاتم اشتَبَه عليه المُراد بلفظ الخَيْط في قوله تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأَسْوَدِ} [البقرة: 187، وحمله على ظاهره، فقد رُوى أنه قال لما نزلت هذه الآية أخذت عِقالاً أسودَ وعِقالاً أبيض، فوضعتهما تحت وسادتي، فنظرت فلم أتبيّن، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن وِسَادك لطويل عَرِيضٌ، إنما هو الليل والنهار، والوجه الثاني: أن تذكر كلَّ واحدٍ من المشبَّه والمشبَّه به فتقول زيدٌ أسد وهندٌ بدر، وهذا الرجل الذي تراه سيفٌ صارمٌ على أعدائك، وقد كنتُ ذكرتُ فيما تقدّم، أن في إطلاق الاستعارة على هذا الضَّرب الثاني بعضُ الشبهة، ووعدتُك كلاماً يجيء في ذلك، وهذا موضعُه. اعلم أنّ الوجهَ الذي يقتضيه القياس، وعليه يدلّ كلام القاضي في الوساطة، أن لا تُطْلَق الاستعارة على نحو قولنا زيد أسَدٌ وهند بدرٌ، ولكن تقول: هو تشبيه، وإذا قال هو أسدٌ، لم تقُلْ استعار له اسم الأسد، ولكن تقول شَبَّهه بالأسد، وتقول في الأول إنه استعارة لا تتوقف فيه ولا تتحاشى البتّةَ، وإن قلت في القسم الأول: إنه تشبيه كنتَ مصيباً، من حيث تُخبر عمّا في نفس المتكلم وعن أصل الغرض، وإن أردت تمام البيان قلت أراد أن يشبّه المرأةَ بالظبية فاستعار لها اسمها مبالغةً. فإن قلت فكذلك فقل في قولك زيد أسد، إنه أراد تشبيهه بالأسد، فأجرَى اسمه عليه، ألا ترى أنك ذكرته بلفظ التَّنكير فقلت زيد أسد، كما تقول زيد واحد من الأسود، فما الفرْقُ بين الحالين، وقد جرى الاسم في كل واحد منهما على المشبَّه. فالجواب أن الفرق بيّنٌ وهو أنك عزلت في القسم الأول الاسمَ الأصليَّ عنه واطّرحته، وجعلته كأن ليس هو باسم له، وجعلت الثانيَ هو الواقعَ عليه والمتناوِلَ له، فصار قصدُك التشبيهَ أمراً مطويّاً في نفسك مكنوناً في ضميرك، وصار في ظاهر الحال وصورة الكلام ونِصْبَته، كأنه الشيء الذي وُضع له الاسم في اللغة وتُصُوّر - إن تَعَلَّقَهُ الوهمُ - كذلك، وليس كذلك القسم الثاني، لأنك قد صرّحت فيه بذكر المشبَّه، وذكرُك له صريحاً يأبَى أن تَتوَّهم كونَهُ من جنس المشبَّه به، وإذا سمع السامع قولك زيد أسد وهذا الرجل سيف صارمٌ على الأعداء، استحال أن يظنّ وقد صرَّحت له بذكر زيدٍ أنك قصدت أسداً وسيفاً، وأكثر ما يمكن أن يُدَّعى تخيُّلُه في هذا أن يقع في نفسه من قولك زيد أسد، حالُ الأسد في جراءته وإقدامه وبَطْشه، فأمَّا أنْ يقع في وهمه أنه رجل وأَسَدٌ معاً بالصورة والشخص فمحالٌ. ولمَّا كان كذلك، كان قصدُ التشبيه من هذا النحو بيِّناً لائحاً، وكائناً من مقتضى الكلام، وواجباً من حيث موضوعه، حتى إن لم يُحمَلْ عليه كان مُحالاً، فالشيء الواحدُ لا يكون رجلاً وأَسداً، وإما يكون رجلاً وبصفَة الأسد فيما يرجع إلى غرائز النفوس والأخلاق، وخصوصٍ في الهيئة كالكراهة في الوجه، وليس كذلك الأول، لأنه يحتمل الحمل على الظَّاهر على الصحة، فلست بممنوع من أن تقول عَنَّت لنا ظبيةٌ، وأنت تريد الحيوان وطلعت شمس، وأنت تريد الشَّمسَ، كقولك: طلعتِ اليوم شمسٌ حارّة وكذلك تقول: هززتُ على الأعداء سيفاً وأنت تريد السيف، كا تقوله وأنت تريد رجلاً باسلاً استعنت به، ورأياً ماضياً وُفّقت فيهِ، وأصبت به من العدوِّ فأرهبته وأَثَّرتَ فيه، وإذا كان الأمر كذلك، وجب أن يُفصَل بين القسمين، فيسمَّى الأوّل: استعارةً على الإطلاق، ويقال في الثاني إنه تشبيه، فأما تسميةُ الأول تشبيهاً فغير ممنوع ولا غريب، إلاّ أنه على أنك تُخبر عن الغرض وتُنبئ عن مضمون الحال، فأمّا أن يكون موضوعُ الكلام وظاهره موجباً له صريحاً فَلا. فإن قلت فكذلك قولك هو أسد، ليس في ظاهره تشبيه، لأن التشبيه يحصُل بذكر الكاف ومِثْل ونحوهما. فالجواب أن الأمر وإن كان كذلك، فإنّ موضوعَه من حيث الصُّورة يوجب قصدك التشبيه، لاستحالة أن يكون له معنًى وهو على ظاهره، وله مثالٌ من طريق العَادة، وهو أنّ مَثَلَ الاسم مَثَلُ الهيئة التي يُستدَلّ بها على الأجناس، كزِيِّ الملوك وزيّ السُّوقة، فكما أنك لو خلعْتَ من الرجل أثواب السوقة، ونَفَيْتَ عنه كل شيء يختصُّ بالسوقة، وألبستَهُ زِيَّ الملوك، فأبديته للناس في صورة الملوك حتى يتوهّموه مَلِكاً، وحتى لا يَصِلوا إلى معرفة حاله إلا بإخبار واختبار واستدلال من غير الظاهر، كنتَ قد أعرتَهُ هيئةَ المَلِك وزِيَّه على الحقيقة، ولو أنك ألقيت عليه بعض ما يلبسه المَلِك من غير أن تُعَرِّيَهُ من المعاني التي تدل على كونه سُوقَةً، لم تكن قد أعرتَهُ بالحقيقة هيئةَ الملك، لأن المقصود من هيئة الملك أن يحصُل بها المَهابةُ في النفس، وأن يُتَوَّهم العظمة، ولا يحصل ذلك مع وجود الأوصاف الدالّة على أن الرجل سُوقة. افرِضْ هذه الموازنة في الشيء الواحد، كالثوب الواحد يُعارُه الرجلُ فيلبَسُه على ثوبه ومنفرداً، وإنما اعتبرِ الهيئةَ وهي تحصلُ بمجموع أشياء، وذلك أن الهيئة هي التي يُشبه حالها حالَ الاسم، لأن الهيئة تخصُّ جنساً دون جنس، كما أن الاسم كذلك، والثوب على الإطلاق لا يفعل ذلك إلا بخصائص تَقْترن به وتُرعَى معه، فإذا كان السامع قولَك: زيد أسدٌ لا يتوهَّم أنك قصدت أسداً على الحقيقة، لم يكن الاسم قد لحقه، ولم تكن قد أعرته إياه إعارةً صحيحةً، كما أنك لم تُعِر الرجل هيئةَ الملِك حين لم تُزِلْ عنه ما يُعلَم به أنه ليس بملك،ّ مَثَلَ الاسم مَثَلُ الهيئة التي يُستدَلّ بها على الأجناس، كزِيِّ الملوك وزيّ السُّوقة، فكما أنك لو خلعْتَ من الرجل أثواب السوقة، ونَفَيْتَ عنه كل شيء يختصُّ بالسوقة، وألبستَهُ زِيَّ الملوك، فأبديته للناس في صورة الملوك حتى يتوهّموه مَلِكاً، وحتى لا يَصِلوا إلى معرفة حاله إلا بإخبار واختبار واستدلال من غير الظاهر، كنتَ قد أعرتَهُ هيئةَ المَلِك وزِيَّه على الحقيقة، ولو أنك ألقيت عليه بعض ما يلبسه المَلِك من غير أن تُعَرِّيَهُ من المعاني التي تدل على كونه سُوقَةً، لم تكن قد أعرتَهُ بالحقيقة هيئةَ الملك، لأن المقصود من هيئة الملك أن يحصُل بها المَهابةُ في النفس، وأن يُتَوَّهم العظمة، ولا يحصل ذلك مع وجود الأوصاف الدالّة على أن الرجل سُوقة. افرِضْ هذه الموازنة في الشيء الواحد، كالثوب الواحد يُعارُه الرجلُ فيلبَسُه على ثوبه ومنفرداً، وإنما اعتبرِ الهيئةَ وهي تحصلُ بمجموع أشياء، وذلك أن الهيئة هي التي يُشبه حالها حالَ الاسم، لأن الهيئة تخصُّ جنساً دون جنس، كما أن الاسم كذلك، والثوب على الإطلاق لا يفعل ذلك إلا بخصائص تَقْترن به وتُرعَى معه، فإذا كان السامع قولَك: زيد أسدٌ لا يتوهَّم أنك قصدت أسداً على الحقيقة، لم يكن الاسم قد لحقه، ولم تكن قد أعرته إياه إعارةً صحيحةً، كما أنك لم تُعِر الرجل هيئةَ الملِك حين لم تُزِلْ عنه ما يُعلَم به أنه ليس بملك، هذا وإذا تأمّلنا حقيقةَ الاستعارة في اللغة والعادة، كان في ذلك أيضاً بيانٌ لصحة هذه الطريقة، ووجوبِ الفرقِ بين القسمين، وذاك أن من شرط المستعار أن يَحْصُل للمستعير منافعهُ على الحدّ الذي يحصل للمالِك، فإن كان ثوباً لَبِسَه كما لبسه، وإن كان أداةً استعملها في الشيء تصلح له، حتى إنّ الرائي إذا رآه معه لم تنفصل حاله عنده من حال ما هو مِلْكُ يدٍ ليس بعاريَّةٍ، وإما يفْضُلُهُ المالك في أنّ له أن يُتلف الشيء جملةً، ويُدخِل التلف على بعض أجزائه قصدًا، وليس للمستعير ذلك، ومعلومٌ أنّ ما هو كالمنفعة من الاسم أن يوجب ذكرُه القصدَ إلى الشيء في نفسه، فإذا قلت زيد، عُلم أنك أردت أن تُخبر عن الشخص المعلوم، وإذا قلت لقِيت أسداً، عُلم أنك علّقت اللقاءَ بواحد من هذا الجنس، وإذا كان الأمر كذلك، ثم وجدنا الاسم في قولك عنّت ظبية، يُعقَل من إطلاقه أنك قصدت الجنس المعلوم ولا يُعلَم أنك قصدت امرأةً، فقد وقع من المرأة في هذا الكلام موقعَه من ذلك الحيوان على الصحة، فكان ذلك بمنزلةِ أن المستعير ينتفع بالمستعار انتفاعَ مالكه، فيلبَسُه لُبْسَهُ، ويتجمَّل به تجمُّلَه، ويكون مكانه عنده مكانَ الشيءِ المملوك، حتى يعتقد من يَنْظُر إلى الظاهر أنه له، ولما وجدنا الاسم في قولك زيد أسد، لا يقع من زيد ذلك الموقع، من حيث إنّ ذكرَه باسمه يمنع من أن يصير الاسم مطلقاً عليه، ومتناوِلاً له على حدّ تناوُله ما وُضع له، كان وِزانُ ذلك وِزانَ أن تضعَ عند الرجل ثوباً وتمنعَه أن يلبسه، وبمنزلة أن تطرَحَ عليه طَرَفَ ثوبٍ كان عليك، فلا يكون ذلك عاريَّةً صحيحة، لأنك لم تُدخلْه في جملته، ولم تُعْطِه صورةَ ما يَخْتَص به ويصير إليه، ويخفَى كونُه لك دونه فاعرفه. وها هنا فصل آخر من طريق موضوع الكلام، يُبَيِّن وجوب الفرق بين القسمين: وهو أن الحالة التي يُخْتَلف في الاسم إذا وقع فيها، أيُسمَّى استعارة أم لا يسمَّى؛ هي الحالة التي يكون الاسم فيها خبرَ مبتد ومنزَّلاً منزلتَه، أعني أن يكون خبرَ كان، ومفعولاً ثانياً لبابِ علمت، لأن هذه الأبواب كلها أصلها مبتدأ وخبر ويكون حالاً، لأن الحال عندهم زيادةٌ في الخبر، فحكمها حكم الخبر فيما قصدته هاهنا خصوصاً، والاسم إذا وقع في هذه المواضع، فأنت واضعٌ كلامك لإثبات معناه، وإن أدخلت النَّفي على كلامك تَعلَّق النفي بمعناه، تفسير هذه الجملة أنك إذا قلت زيد منطلق، فقد وضعت كلامَك لإثبات الانطلاق لزيد، ولو نفيت فقلت ما زيد منطلقاً، كنت نفيت الانطلاق عن زيد، وكذلك: أكان زيد منطلقاً، وعلمتُ زيداً منطلقاً، ورأيت زيداً منطلقاً، أنت في ذلك كلِّه واضعٌ كلامك ومُزْجٍ له لتُثبت الانطلاق لزيد، ولو خُولفت فيه انصرف الخلافُ إلى ثبوته له، وإذا كان الأمر كذلك، فأنت إذا قلت زيد أسدٌ ورأيتُه أسداً، فقد جعلت اسم المشبَّه به خبراً عن المشبَّه، والاسم إذا كان خبراً عن الشيء كان خبراً عنه، إمّا لإثبات وَصْفٍ هو مشتقٌّ منه لذلك الشيء، كالانطلاق في قولك زيد منطلقْ، وإثباتِ جنسيةٍ هو موضوعٌ لها كقولك: هذا رجل، فإذا امتنع في قولنا زيد أسدٌ أن تُثبت شَبَه الجنس، فقد اجتلبْنَا الاسم لنُحْدِثَ به التشبيه الآن، ونقرِّرَه في حيّز الحصول والثبوت، وإذا كان كذلك، كان خليقاً بأن تسمّيه تشبيها، إذ كان إنما جاءَ ليُفيدَه ويُوجبَه، وأمّا الحالة الأخرى التي قلنا إن الاسم فيها يكون استعارةً من غير خلافٍ، فهي حالةٌ إذا وقع الاسم فيها لم يكن الاسم مجتلَباً لإثبات معناه للشيء، ولا الكلامُ موضوعاً لذلك، لأن هذا حكمٌ لا يكون إلا إذا كان الاسم في منزلة الخبر من المبتدأ، فأمّا إذا لم يكن كذلك، وكان مبتدأ بنفسه، وفاعل ومفعول ومضافاً إليه، فأنت واضعٌ كلامك لإثبات أمر آخرَ غيرِ ما هو معنى الاسم. بيان ذلك أنك إذا قلت جاءني أسدٌ ورأيت أسداً ومررت بأسدٍ، فقد وضعت الكلام لإثبات المجيء واقعاً من الأسد، والرؤية والمرور واقعَين منك عليه، وكذلك إن قلت الأسدُ مُقبِل، فالكلام موضوعٌ لإثبات الإقبال للأسد، لا لإثبات معنى الأسد، وإذا كان الأمر كذلك، ثم قلت عنّتْ لنا ظبيةٌ، وهززت سيفاً صارماً على الأعداء وأنت تعني بالظبية امرأةً، وبالسيف رجلاً لم يكن ذكرُك للاسمين في كلامك هذا لإثبات الشُّبه المقصودِ الآن، وكيف يُتصوَّر أن تقصد إلى إثبات الشبه منهما بشيءٍ، وأنت لم تذكر قبلهما شيئاً ينصرف إثبات الشبه إليه، وإنما تُثبت الشُّبه من طريق الرجوع إلى الحال، والبحثِ عن خَبِئٍ في نفس المتكلم. وإذا كان كذلك بانَ أن الاسم في قولك زيد أسدٌ، مقصودٌ به إيقاع التشبيه في الحال وإيجابه، وأما في قولك: عنّت لنا ظبيةٌ وسللتُ سيفاً على العدوّ، فوُضعَ الاسم هكذا انتهازاً واقتضاباً على المقصود، وادّعاء أنه من الجنس الذي وُضع له الاسم في أصل اللغة، وإذا افترقا هذا الافتراقَ، وجب أن نفرق بينهما في الاصطلاح والعبارة، كما أنّا نفصِل بين الخبر والصفة في العبارة، لاختلاف الحكم فيهما، بأنّ الخبر إثباتٌ في الوقت للمعنى، والصفة تبيينٌ وتوضيحٌ وتخصيصٌ بأمرٍ قد ثبت واستقرَّ وعُرِفَ، فكما لم نرضَ لاتفاق الغَرَض في الخبر الصِّفة على الجملة واشتراكهما إذا قلت زيد ظريفٌ وجاءَني زيد الظَّريف، في التباس زيد في الظرف واكتسائه له، أَنْ تجعلهما في الوضع الاصطلاحيّ شيئاً واحداً، ولا نفرِّق بتسميتنا هذا خبراً وذلك صفةً كذلك ينبغي أن لا يدعونا - اتفاق قولنا: جاءني أسد وهززت سيفاً صارماً وقولنا زيد أسد وسيف صارم، في مطلق التشبيه - إلى التسوية بينهما، وتَرْكِ الفَرْق من طريق العبارة، بل وجب أن نفرِّق، فنسمِّي ذاك استعارةً وهذا تشبيهاً، فإن أبيتَ إلا أن تُطلق الاستعارة على هذا القسم الثاني، فينبغي أن تعلم أن إطلاقها لا يجوز في كل موضعٍ يحسن دخول حرف التشبيه فيه بسهولة، وذلك نحو قولك: هو الأسد وهو شمسُ النهار وهو البدر حسناً وبهجةً، والقضيبُ عطفاً، وهكذا كل موضع ذكر فيه المشبَّه به بلفظ التعريف، فإن قلت: هو بحر وهو ليثٌ ووجدته بحراً، وأردت أن تقول إنه استعارة، كنت أعذَرَ وأشبه بأن تكون على جانب من القياس، ومتشبّثاً بطَرفٍ من الصواب، وذلك أن الاسم قد خرج بالتنكير عن أن يحسن إدخال حرف التشبيه عليه، فلو قلت هو كأسد وهو كبحر، كان كلاماً نازلاً غير مقبول، كما يكون قولك هو كالأسد، إلا أنَّه وإن كان لا يحسن فيه الكاف فإنه يحسن فيه كأنّ كقولك كأنه أسد، وما يجري مجرى كأنّ في نحو تحسِبُه أسداً وتَخَالُه سيفاً، فإن غَمَض مكانُ الكاف وكأن، بأن يوصف الاسم الذي فيه التشبيهُ بصفةٍ لا تكون في ذلك الجنس، وأمرٍ خاصٍّ غريبٍ فقيل هو بحر من البلاغة، وهو بدر يسكن الأرض، وهو شمس لا تغيب، وكقوله: شَمْسٌ تألَّقُ والفِرَاقُ غُروبُها *** عَنَّا وبَدْرٌ والصُّدُودُ كُسوفُهُ فهو أقرب إلى أن نسمّيه استعارةً، لأنه قد غمضَ تقدير حرف التشبيه فيه، إذ لا تصلُ إلى الكاف حتى تُبطل بِنْيةَ الكلام وتُُبدِّل صورته فتقول: هو كالشمس المتألِّقة، إلا أن فراقَها هو الغروب، وكالبدرِ إلا أن صدودَه الكسوف. وقد يكون في الصفات التي تجيء في هذا النحو، والصِّلات التي تُوصَل بها، ما يختلّ به تقدير التشبيه، فيقرب حينئذ من القبيل الذي تُطلَق عليه الاستعارة من بعض الوجوه، وذلك مِثل قوله: أَسدٌ دمُ الأَسَدِ الهِزَبْرِ خِضابُـهُ *** مَوْتٌ فَرِيصُ الموتِ منه ترْعَدُ لا سبيل لك إلى أن تقول: هو كالأسد وهو كالموت، لما يكون في ذلك من التناقض، لأنك إذا قلت هو كالأسد فقد شبّهته بجنس السبعُ المعروف، ومُحالٌ أن تجعله محمولاً في الشَّبه على هذا الجنس أوَّلاً، ثم تجعل دَمَ الهزَبْرِ الذي هو أقوى الجنس، خضابَ يده، لأنّ حملك له عليه في الشَّبه دليل على أنه دونه، وقولك بَعْدُ دمُ الهزبر من الأسود خضابه، دليل على أنه فوقها، وكذلك محالٌ أن تشبَّهه بالموت المعروف، ثم تجعله يخافه، وترتعد منه أكتافه، وكذا قوله: سَحَابٌ عَدَاني سَيْلُه وهو مُسبـلٌ *** وبَحْرٌ عَدَاني فيْضُه وَهْو مُفْعَـمُ وبَدرٌ أضاءَ الأَرضَ شرقاً ومغرِباً *** ومَوْضِعُ رَحْلِي منه أسْوَدُ مُظلمُ إن رجعت فيه إلى التشبيه الساذَج فقلت هو كالبدر، ثم جئت تقول أضاء الأَرض شرقاً ومغرباً ومَوْضِع رحلي مظلمٌ لم يضيء به، كنتَ كأنك تجعل البدر المعروف يُلبس الأرضَ الضياءَ ويمنعه رحلَك، وذلك مُحَالٌ، وإنما أردت أن تُثبت من الممدوح بدراً مفرداً له هذه الخاصية العجيبة التي لم تُعرَف للبدر، وهذا إنما يَتَأتَّى بكلام بعيدٍ من هذا النظم، وهو أن يقال: هل سمعت بأن البَدْر يطلع في أُفُقٍ، ثم يمنع ضوءه موضعاً من المواضع التي هي مُعرَّضة له وكائنة في مقابلته، حتى ترى الأرض الفضاء قد أضاءَت بنوره البيت، فهذا النحو موضوع على تخييلِ أنه زاد في جنس البدر واحدٌ له حُكمٌ وخاصّةٌ لم تُعرَف. وإذا كان الأمر كذلك صار كلامُك موضوعاً لا لإثبات الشبه بينه وبين البدر، ولكن لإثبات الصِّفة في واحد متجدّدٍ حادثٍ من جنس البدر، لم تُعرَف تلك الصفة للبدر، فيصير بمنزلة قولك زيد رجل يقري الضيوفَ ويفعل كيت وكيت، فلا يكون قصدك إثباتَ زيدٍ رجلاً، ولكن إثباتُ الصفة التي ذكرتَها له، فإذا خرج الاسم الذي يتعلق به التشبيه من أن يكون مقصوداً بالإثبات، تبيَّن أنه خارج عن الأصل الذي تقدّم، من كون الاسم لإثبات الشبه، فالبحتري في قوله: وَبَدْرٌ أضاءَ الأَرْضَ قد بَنَى كلامه على أن كونَ الممدوح بدراً، أمرٌ قد استقرَّ وثَبت، وإنما يعمل في إثبات الصفة الغريبة، والحالةِ التي هي موضع التعجّب، وكما يمتنع دخول الكاف في هذا النحو، كذلك يمتَنِعُ دخولُ كأَن وتحسب وتخال، فلو قلت كأنه بدر أضاء الأرض شرقاً ومغرباً وموضع رحلي منه مظلم كان خَلْفاً من القول.وكذلك إن قلت: تحسبه بدراً أضاء الأرض ورحلي منه مظلم، كان كالأوّل في الضعف، ووجه بُعده من القبول بيِّنٌ، وهو أنّ كأن وحسبت وخلت وظننت تدخل إذا كان الخبر والمفعول الثاني أمراً معقولاً ثابتاً في الجملة، إلا أنه في كونه متعلقاً بما هو اسم كأن والمفعول الأوّل من حسبت مشكوك فيه، كقولنا كأن زيداً منطلق، ومجازٌ يُقصَد به خلاف ظاهره، نحوُ كأنّ زيداً أسدٌ، فالأسد على الجملة ثابت معروف، والغريب هو كون زيدٍ إياه ومن جنسه، والنكرة في نحو هذه الأبيات موصوفةٌ بأوصاف تدلُّ على أنك تُخبر بظهور شيءٍ لا يُعرَف ولا يُتصوَّر، وإذا كان كذلك، كان إدخال كأن وحسبت عليه كالقياس على المجهول. وتأّمّلْ هذه النكتة فإنه يَضْعُفُ ثانياً إطلاق الاستعارة على هذا النحو أيضاً، لأن موضوع الاستعارة - كيف دارت القضيةُ - على التشبه، وإذا بانَ بما ذكرتُ أن هذا الجنس إذا فَلَيتَهُ عن سِرّه، ونقَّرتَ عن خبيئه، فمحصوله أنك تدّعي حدوثَ شيء هو من الجنس المذكور، إلا أنه اختُصَّ بصفة غريبة وخاصية بديعة، لم يكن يُتوهَّم جوازُها على ذلك الجنس، كأنك تقول: ما كنّا نعلم أن هاهنا بدراً هذه صفته كان تقدير التشبيه فيه نقضاً لهذا الغرض، لأنه لا معنى لقولك: أشبّهه ببدرٍ حَدَثٍ خلافِ البدور ما كان يُعرَف. وهذا موضع لطيف جدّاً لا تنتصف منه إلاّ باستعانة الطبع عليه، ولا يمكن توفيةُ الكشف فيه حقَّه بالعبارة، لدقَّة مسلكه. ويتصل به أن في الاستعارة الصحيحة ما لا يحسن دخول كَلِمِ التشبيه عليه، وذلك إذا قوي التشَّبَهُ بين الأصل والفرع، حتى يتمكن الفرعُ في النفس بمداخلة ذلك الأصل والاتحاد به، وكونِه إياه، وذلك في نحو النور إذا استعير للعلم والإيمان، والظلمة للكفر والجهل، فهذا النحو لتمكُّنه وقوَّةِ شَبهه ومَتانة سببه، قد صار كأنه حقيقة، ولا يحسن لذلك أن تقول في العلم كأنه نور، وفي الجهل كأنه ظلمة، ولا تكاد تقول للرجل في هذا الجنس كأنَّك قد أوقعتني في ظلمة بل تقول: أوقعتني في ظلمة، وكذلك الأكثرُ على الألسُن والأسبقُ إلى القلوب أن تقول: فهمت المسألة فانشرح صدري وحصل في قلبي نور، ولا تقول: كأنّ نُوراً حصل في قلبي، ولكن إذا تجاوزتَ هذا النوع إلى نحو قولك: سللتُ منه سيفاً على الأعداء، وجدتَ كأن حسنةً هناك كثيرةً، كقولك: بعثته إلى العدوّ فكأني سللت سيفاً وكذلك في نحو: زيدٌ أسد وكأن زيداً أسد، وهكذا يتدرج الحُكْمُ فيه، حتى كلَّما كان مكان الشَبَه بين الشيئين أخفى وأغمضَ وأبعدَ من العُرْف، كان الإتيان بكلمة التشبيه أبين وأحسنَ وأكثرَ في الاستعمال. ومما يجب أن تجعله على ذكر منك أبداً، وفيه البيان الشافي أنّ بين القسمين تبايُناً شديداً أعني بين قولك زيد أسد وقولك رأيت أسداً وهو ما قدّمته لك من أنك قد تجدُ الشيءَ يصلح في نحو زيد أسدٌ حيث تذكُرُ المشبَّه باسمه أَوّلاً، ثم تُجري اسم المشبَّه به عليه، ولا يصلح في القسم الآخر الذي لا تذر فيه المشبَّه أصلاً وتطْرحُه. ومن الأمثلة البيّنة في ذلك قولُ أبي تمام:لقسمين تبايُناً شديداً أعني بين قولك زيد أسد وقولك رأيت أسداً وهو ما قدّمته لك من أنك قد تجدُ الشيءَ يصلح في نحو زيد أسدٌ حيث تذكُرُ المشبَّه باسمه أَوّلاً، ثم تُجري اسم المشبَّه به عليه، ولا يصلح في القسم الآخر الذي لا تذر فيه المشبَّه أصلاً وتطْرحُه. ومن الأمثلة البيّنة في ذلك قولُ أبي تمام: وكَانَ المَطْلُ في بَدْءٍ وعَوْدٍ *** دُخاناً للصَّنِيعةِ وهي نـارُ قد شبَّه المطل بالدُّخان، والصنيعة بالنار، ولكنه صرّح بذكر المشبَّه، وأوقع المشبَّه به خبراً عنه، وهو كلام مستقيم. ولو سلكت بهِ طريقةَ ما يسقط فيه ذكر المشبَّه فقلت مثلاً: أقْبَسْتَني ناراً لها دخان، كان ساقطاً، ولو قلت أقبستَني نوراً أضاء أُفُقي به، تريد علماً، كان حَسَناً، حُسْنَه إذا قلت عِلْمُك نور في أُفقي، والسبب في ذلك أنّ اطِّراحَ ذكر المشبَّه والاقتصارَ على اسم المشبَّه به، وتنزيلَهُ منزلته، وإعطاءَه الخلافة على المقصود، إنما يصحّ إذا تقرَّر الشَّبه بين المقصود وبين ما تستعير اسمه له، وتستبينه في الدِّلالة، وقد تَقرَّر في العُرف الشبه بين النور والعلم وظهرَ وَاشْتُهِر، كما تقرر الشَّبه بين المرأة والظبية، وبينَها وبينَ الشمس ولم يتقرر في العُرْف شَبَهٌ بين الصَّنيعة والنار، وإنما هو شيءٌ يضعه الآن أبو تمام ويتمحّله، ويعمل في تصويره، فلا بُدّ له من ذكر المشبَّه والمشبَّه به جميعاً حتى يُعقَلَ عنه ما يريده، ويَبِينَ الغرض الذي يقصده، وإلاّ كان بمنزلة من يريد في إعلام السامع أنّ عنده رجلاً هو مثل زيد في العلم مثلاً، فيقول له: عندي زيد، ويَسُومه أن يَعْقِل من كلامه أنه أراد أن يقول: عندي رجل مثل زيد، وغيره من المعاني، وذلك تكليفُ علم الغيب. فاعرف هذا الأصل وتبيَّنْه، فإنك تزداد به بصيرةً في وجوب الفَرْق بين الضربين، وذلك أنهما لو كانا يَجْرِيان مجرىً واحداً في حقيقة الاستعارة، لوجب أن يَسْتَويَا في القضيّة، حتى إذا استقامَ وَضْعُ الاسم في أحدهما استقام وَضْعه في الآخر فاعرفه. فإن قلت فما تقول في نحو قولهم لقيتُ به أسداً ورأيت منه ليثاً. فإنه مما لا وجه لتسميته استعارةً، ألا تراهم قالوا: لئن لقيتُ فلاناً لَيلْقَيَنَّك منه الأسَدُ، فأتوا به معرفةً على حدِّه إذا قالوا: احذرِ الأسد، وقد جاء على هذه الطريقة ما لا يُتَصوَّر فيه التشبيه، فُظَنَّ أنّه استعارة، وهو قوله عز وجل: {لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ} [فصلت: 28]، والمعنى - واللَّه أعلم - أنّ النَّار هي دار الخلد، وأنت تعلم أن لا معنى هاهنا لأن يقال إن النار شُبّهت بدارِ الخلد، إذ ليس المعنى على تشبيه النَّار بشيء يسمَّى دار الخلد، كما تقول في زيد إنه مثل الأسد، ثم تقول: هو الأسد، وإنما هو كقولك: النار منزلهم ومسكنهم، نعوذ باللَّه منها. وكذا قوله: يَأبَى الظُلاَمَةَ مِنْهُ النَّوْفَلُ الزُّفَرُ المعنى على أنه النَّوفل الزُّفَر، وليس الزفر باسمٍ لجنسٍ غير جنس الممدوح كالأسد، فيقالَ إنه شبّه الممدوح به، وإنما هو صفة كقولك هو الشجاع وهو السيّد وهو النهَّاض بأعباء السيادة، وكذلك قولُه: يَا خَيْرَ مَن يَرْكَبُ المطيَّ وَلاَ *** يَشْرَبُ كأسَاً بكَفِّ مَن بَخِل لا يتصور فيه التشبيه، وإنما المعنى أنه ليس ببخيل، هذا وإنما يُتصوَّر الحكمُ على الاسم بالاستعارة، إذا جرى بوجهٍ على ما يُدَّعَى أنه مستعارٌ له، والاسمُ في قولك لقيتُ به أسد ولقيني منه أسداً، لا يُتصوَّر جَرْيه على المذكور بوجه، لأنه ليس بخبرٍ عنه، ولا صفةٍ له، ولا حالٍ، وإنما هو بنفسه مفعولُ لقيتُ وفاعل لقيني، ولو جاز أن يجري الاسم، هاهنا مجرى المستعارِ المتناوِل المستعارَ له، لوجب أن نقول في قوله: حتَّى إذا جَنَّ الظَّلامُ وَاخـتـلـطْ *** جَاءُوا بمَذْقٍ هل رَأَيتَ الذئبَ قَطّْ إنه استعار اسم الذئب للمَذْق، وذلك بَيِّنُ الفساد. وكذا نحو قوله: نُبِّئْتُ أنّ أبا قَابُوسَ أَوْعَـدَنـي *** ولا قَرَارَ على زَأْرٍ من الأَسَدِ لا يكون استعارة، وإن كنت تجد من يفهم البيت قد يقول: أراد بالأسد النُّعمان، وشبَّهه بالأسد، لأن ذلك بيانٌ للغَرَض، فأمَّا القضيةُ الصحيحةُ وما يَقَع في نفس العارف، ويوجِبُه نقد الصَّيْرَف، فإنّ الأسد واقع على حقيقته حتى كأنه قال: ولا قَرَار على زَأْر هذا الأسد، وأشار إلى الأسد خارجاً من عَرِينه مُهدِّداً مُوعداً بزئيره، وأيُّ وجْهٍ للشكِّ في ذلك، وهو يؤدّي إلى أن يكون الكلام على حدّ قولك: ولا قَرَار على زَأْرِ مَن هُو كالأسد? وفيه من العِيِّ والفَجَاجة شيءٌ غير قليل. هذا ومن حقّ غالطٍ غَلِطَ في نحو ما ذكرتُ - على قلَّة عُذْرِه - أن لا يغلط في قول الفرزدق: قِيَاماً يَنْظُرون إلى سَعيدٍ *** كأنَّهُمُ يَرَون به هلالاَ ولا يُتَوَهَّم أن هلالاً استعارة لسعيد، لأن الحكم على الاسم بالاستعارة مع وجود التشبيه الصريح، محالٌ جارٍ مجرى أن يكون كُلّ اسم دخل عليه كافُ التشبيه مستعاراً، وإذا لم يغلط في هذا فالباقي بمنزلته فاعرفه. والاستمداد والاستعانَة اعلم أنّ الشاعرين إذَا اتفقَا، لم يخلُ ذلك من أن يكون في الغَرَض على الجملة والعموم، وفي وجه الدلالة على ذلك الغَرض، والاشتراك في الغَرَض على العموم أن يقصد كلُّ واحد منهما وصفَ ممدوحه بالشجاعة والسخاء، وحُسن الوجه والبهاء، ووصفَ فرسه بالسرعة، وما جرى هذا المجرى. وأمّا وجه الدِّلاَلة على الغرض، فهو أن يَذْكر ما يُستدلّ به على إثباته له الشجاعةَ والسخاء مثلاً، وذلك ينقسم أقساماً: منها التشبيهُ بما يوجَد هذا الوصف فيه على الوجهِ البليغ والغاية البعيدةِ، كالتشبيه بالأسد، وبالبحر في البأس والجود، والبَدْر والشَّمسِ في الحسن والبهاء والإنارة والإشراق، ومنها ذكر هَيْئاتٍ تدلّ على الصِّفة من حيث كانت لا تكون إلا فيمن له الصِّفة، كوصف الرَّجل في حال الحرب بالابتسام وسكون الجوارح وقلَّة الفكر، كقوله: كأنّ دَنَانِيراً عَلى قَسماتِـهـم *** وإنْ كان قَدْ شفَّ الوُجُوهَ لِقاءُ وكذلك الجوادُ يوصف بالتَّهَلُّل عند وُرود العُفاة، والارتياح لرؤية المُجتَدين، والبخيلُ بالعبوس والقُطوب وقلّة البشر، مع سَعَة ذات اليد ومُساعدة الدهر. فأما الاتفاق في عموم الغَرض، فما لا يكون الاشتراك فيه داخلاً في الأَخذ والسرقة والاستمداد والاستعانة، لا ترى مَنْ به حِسٌّ يدَّعي ذلك، ويأبَى الحكمَ بأنه لا يدخل في باب الأخذ، وإنما يقع الغلط من بعض مَن لا يُحسن التحصيل، ولا يُنْعم التأمُّل، فيما يؤدِّي إلى ذلك، حتى يُدّعَى عليه في المُحَاجّة أنه بما قاله قد دخل في حكم من يجعل أحد الشاعرَين عِيالاً على الآخر في تصوُّر معنى الشجاعة، وأنّها مما يُمدَح به، وأن الجهل مما يُذَمُّ به، فأمّا أن يقوله صريحاً ويرتكبه قَصْداً فلا، وأمَّا الاتفاق في وجه الدِّلالة على الغرض، فيجب أنْ يُنظَر، فإن كان مما اشترك الناس في معرفته، وكان مستقرّاً في العقول والعادات، فإنَّ حُكْمَ ذلك، وإن كان خصوصاً في المعنى، حُكْمُ العموم الذي تقدَّم ذكره. من ذلك التشبيه بالأسد في الشجاعة، وبالبحر في السخاء، وبالبدر في النور والبهاء، وبالصبح في الظهور والجلاء ونَفْي الالتباسِ عنه والخفاء، وكذلك قياس الواحدِ في خَصْلة من الخِصال على المذكور بذلك والمشهورِ به والمشار إليه، سواءٌ كان ذلك ممن حضرك في زمانِك، وكان ممن سَبق في الأزمنة الماضية والقرون الخالية، لأن هذا مما لا يُخْتَص بمعرفته قومٌ دون قوم، ولا يحتاج في العلم به إلى رَوِيّةٍ واستنباط وتدبُّر وتأمُّل، وإنما هو في حكم الغرائز المركوزَةِ في النفوس، والقضايا التي وُضع العلم بها في القلوب، وإن كان مما ينتهي إليه المُتَكلِّم بنظرٍ وتدبُّر، وَيَنَالُه بطلبٍ واجتهاد، ولم يكن كالأوّل في حضوره إياه، وكونه في حكم ما يقابله الذي لا معاناةَ عليه فيه، ولا حاجةً به إلى المحاولة والمزاولةِ والقياس والمباحثة والاستنباط والاستثارة، بل كان من دُونه حجابٌ يحتاج إلى خَرْقِه بالنظر، وعليه كِمٌّ يفتقر إلى شَقَّه بالتفكير، وكان دُرّاً في قَعر بحر لا بدّ لهُ من تكلُّف الغَوَص عليه ، وممتنعاً في شاهقٍ لا ينالُه إلاّ بتجشّم الصعود إليه وكامناً كالنار في الزَّند، لا يظهر حتى تقتدحه، ومُشابكاً لغيره كعُرُوق الذهب التي لا تُبدِي صَفْحتها بالهُوَيْنَا، بل تُنال بالحَفْرِ عنها وتعرِيقِ الجبين في طلب التمكن منها.نعم إذا كان هذا شأنُه، وهاهنا مكانه وبهذا الشرط يكون إمكانه، فهو الذي يجوز أن يُدَّعى فيه الاختصاصُ والسَّبق والتقدُّم والأوَّلية، وأن يُجعَل فيه سَلَفٌ وخَلَفٌ، ومُفيد ومستفيد، وأَن يُقضَى بين القائلَين فيه بالتفاضُل والتبايُن، وأنّ أحدَهما فيه أكملُ من الآخر، وأنّ الثاني زاد على الأوَّل ونَقَص عنه، وترقَّى إلى غايةٍ أبعد من غايته، وانحطّ إلى منزلةٍ هي دون منزلته. واعلم أن ذلك الأوّل الذي هو المشتَرك العاميّ، والظاهر الجليّ، والذي قلتُ إنّ التفاضلَ لا يدخله، والتفاوتَ لا يصحّ فيه، إنما يكون كذلك ما كان صريحاً ظاهراً لم تلحقه صنعة، وساذَجاً لم يُعمَل فيه نقش فأَمَّا إذا رُكِّب عليه معنًى، ووُصل به لطيفة، ودُخل إليه من باب الكناية والتعريض، والرَّمز والتلويح، فقد صار بماغَُيّر من طريقته، واستُؤْنِف من صورته، واستُجدَّ له من المِعرَض، وكُسي من دَلّ التعرض، داخلاً في قبيل الخاصّ الذي يُتملَّك بالفكرة والتعمُّل، ويُتوصَّل إليه بالتدبُّر والتأمُّل، وذلك كقولهم، وهم يريدون التشبيه: سلبْن الظِّباء العيونَ، كقول بعض العَرَب: سَلَبْنَ ظباءَ ذي نَفَرٍ طُلاهـا *** ونُجْلَ الأَعيُن البَقَرَ الصِّوارا وكقوله: إنَّ السحابَ لَتَسْتَحيى إذا نَظَرت *** إلى نَداك فقاسته بما فِـيه وكقوله: لم تَلْقَ هذا الوَجْهَ شمسُ نهارنا *** إلاّ بوَجْهٍ لـيس فـيه حَـيَاء وَكقوله: وَاهتَزَّ في وَرَقِ النَّدَى فتحيَّرَتْ *** حَرَكاتُ غصْنِ البَانَة المُتـأوِّدِ وكقوله: فَأفْضيتُ من قُرْبٍ إلى ذِي مَهَابةٍ *** أُقابِلُ بَدْرَ الأُفْق حِين أقـابـلُـهْ إلى مُسْرفٍ في الجود لو أنّ حاتماً *** لَدَيْه لأَمْسَى حاتمٌ وهو عـاذِلُـهْ فهذا كله في أصله ومغزاه وحقيقة معناه تشبيهٌ، ولكن كَنَى لك عنه، وخُودِعتَ فيه، وأُتِيتَ به من طريق الخِلابة في مسلك السحر ومذهب التَّخييل، فصار لذلك غريبَ الشكل، بديع الفن، منيعَ الجانب، لا يدينُ لكل أحد، وأَبيَّ العِطْف لا يدين به إلاّ للمُروِّي المجتهد، وإذا حقّقت النظر، فالخصوصُ الذي تراه، والحالةُ التي تراها، تنفي الاشتراك وتأباه، إنما هُما من أجل أنهم جعلوا التشبيه مدلولاً عليه بأمرٍ آخرَ ليس هو من قبيل الظاهر المعروف، بل هو في حدِّ لحن القول والتعمية اللَّذَين يُتعمَّد فيهما إلى إخفاء المقصود حتى يصير المعلومُ اضطراراً، يُعرف امتحاناً واختياراً، كقوله: مررتُ بباب هِنْدَ فَكَلَّمَتْنِـي *** فلا واللَّه ما نَطَقَتْ بحَرْفِ فكما يوهمك بإتقان اللفظ أنه أراد الكلام، وأن الميم موصولةباللام، كذلك المشبِّه إذا قال سرقن الظباءَ العيونَ، فقد أوهم أن ثَمَّ سرقةً وأنّ العيون منقولةٌ إليها من الظباء، وإن كنت تعلم إذا نظرتَ أنّه يريد أن يقول إن عيونها كعيون الظباء في الحسن والهيئة وفَتْرةِ النظر، وكذلك يوهمك بقوله: إن السحاب لتسْتَحيى، أن السحاب حيٌّ يعرف ويعقل، وأنه يقيس فيضه بفيض كفّ الممدوح فَيَخْزَى ويخجَل. فالاحتفال والصَّنعة في التصويرات التي تروق الساميعن وتَرُوعهم، والتخييلات التي تهزُّ الممدوحين وتُحرّكهم، وتفعل فعلاً شبيهاً بما يقع في نفس النَّاظر إلى التصاوير التي يشكِّلها الحُذَّاق بالتَّخطيط والنقش، وبالنَّحت والنقر، فكما أن تلك تُعجب وتَخْلب، وتَروقُ وتُؤْنِق، وتَدْخُل النفسَ من مشاهدتها حالةٌ غريبة لم تكن قَبْلِ رؤيتها، ويغشاها ضربٌ من الفتنة لا يُنكَر مكانه ولا يخفى شأنه. فقد عَرَفْت قضيَّة الأصنام وما عليه أصحابها من الافتتان بها والإعظام لها، كذلك حكم الشعر فيما يصنعه من الصُوَر، ويُشكّله من البِدَع، ويوقعه في النفوس من المعاني التي يُتوَّهم بها الجماد الصامتُ في صورة الحيّ الناطق، والمواتُ الأَخرس في قضية الفصيح المُعرب والمُبيّن المميِّز، والمعدومُ المفقود في حكم الموجود المشاهَد، كما قدَّمتُ القول عليه في باب التمثيل، حتى يكسب الدنيُّ رفعةً، والغامضُ القدرِ نباهةً، وعلى العكس يغضُّ من شرف الشريف، ويطأُ من قَدْرِ ذي العِزَّة المنيف، ويظلم الفضل ويَتَهضَّمُه، ويَخْدِش وجه الجمال ويَتَخَوَّنُه، ويُعطي الشبهةَ سُلطانَ الحجّة، ويردُّ الحجَّة إلى صيغة الشبهة، ويصنع من المادة الخسيسة بِدَعاً تغلو في القيمة وتعْلو، ويفعل من قلب الجواهر وتبديل الطبائع ما ترى به الكيمياء وقد صَحَّت، ودعوى الإكْسِير وقد وَضَحت، إلاّ أنها روحانية تتلبّس بالأوهام والأفهام، دون الأجسام والأجرام، ولذلك قال: يُرِي حِكْمةً ما فيه وَهْوَ فُكـاهةٌ *** ويَقْضِي بما يَقْضِي به وهو ظالمُ وقال: عَليمٌ بإبْدالِ الحروف وقامـعٌ *** لكلِّ خطيبٍ يَقْمَع الحقَّ باطلُهْ وقال ابن سُكّرة فأحسن: والشعر نارٌ بـلا دُخـانٍ *** وللقوافِي رُقىً لَطـيفـهْ لو هُجِيَ المِسْك وهْو أهلٌ *** لكل مدحٍ لصار جِيفَـهْ كَمْ من ثقيلِ المحلِّ سـامٍ *** هَوت به أحْرُفٌ خَفيفـهْ وقد عرفتَ ما كان من أمر القبيلة الَّذين كانوا يعيَّرون بأَنْف الناقة، حتى قال الحطيئة: قومٌ هُم الأَنْفُ والأذْنَابُ غيرُهُم *** ومَن يُسَوّي بأَنْف النَّاقة الذَّنَب فنَفَى العار، وصحّح الافتخار، وجعل ما كان نَقْصاً وشَيْناً، فضلاً وزَيْناً، وما كان لقباً ونَبْزًا يسوءُ السمع، شَرَفاً وعزّاً يرفع الطرف، وما ذاك إلا بحسن الانتزاع، ولُطف القريحة الصَّناع، والذِّهن الناقد في دقائق الإحسان والإبداع، كما كساهم الجمالَ من حي كانوا عُرُوا منه، وأثبتهم في نِصَاب الفضل من حيث نُفُوا عنه، فَلرُبَّ أنفٍ سَليم قد وَضع الشعرُ عليه حَدَّه فجدَعَه، واسمٍ رفيع قَلَب معناه حتى حطّ به صاحبَه ووَضَعه، كما قال: يا حاجبَ الوزراء إنّك عندَهم *** سَعْدٌ ولكن أنتَ سَعْدُ الذابـحُ ومن العجيب في ذلك قول القائل في كثير بن أحمد: لَوْ عَلِمَ اللَّه فِـيه خَـيْراً *** ما قال لا خَيْرَ في كَثير فانظر من أي مدخل دخل عليه، وكيف بالهوينا هَدَى البلاءَ إليه? وكَثِير هذا هو الذي يقول فيه الصاحب: ومِثْلُ كَثِير في الزَّمَان قَلِيلُ فقد صار الاسم الواحد وسيلةً إلى الهَدْم والبناء، والمدح والهجاء، وذريعةً إلى التزيين والتهَجين. ومن عجيب ما اتفق في هذا الباب قولُ ابن المعتزّ في ذمّ القمر، واجتراؤُه بقدرة البيان على تقبيحه، وهو الأصْل والمثل وعليه الاعتماد والمعوَّل في تحسين كل حَسَن، وتزيين كلِّ مزيَّن، وأوَّلُ ما يقع في النفوس إذا أريد المبالغة في الوصف بالجمال، والبلوغُ فيه غايةَ الكمال، فيقال وجهٌ كأنه القمر، وكأَنه فِلْقَةُ قمر، ذلك لثقته بأنّ هذا القول إذا شَاء سَحَر، وقَلَبَ الصُورَ، وأنه لا يَهاب أن يخرق الإجماع، ويسحَر العقولَ ويَقْتَسر الطباع، وهو: يا سارقَ الأنوار من شَمْس الضُّحَى *** يا مُثْكِلي طيبَ الكَرَى ومُنَغِّصِـي أمّا ضياء الشمسِ فيك فنـاقـصٌ *** وأرَى حَرَارةَ نارِها لم تَنْـقُـصِ لم يَظْفَرِ التشبيهُ مـنـك بـطـائِل *** مُتسَلِّخٌ بَهَقـاً كـلَـوْنِ الأَبْـرصِ وقد عُلِم أنْ ليس في الدنيا مُثْلَة أخزَى وأشنعُ، ونكالٌ أبلغ وأفظع، ومَنْظرٌ أحق بأن يملأ النفوس إنكاراً، ويُزْعج القلوبَ استفظاعاً له واستنكاراً، ويُغْري الألسنةَ بالاستعاذة من سُوء القضاء، ودَرَكِ الشقاء، من أن يُصلَب المقتول ويشبَّح في الجِذع، ثم قَدْ تَرَى مَرثيةَ أبي الحسن الأنباري لابن بقيّة حين صُلب، وما صَنَع فيها من السّحر، حتى قَلَبَ جُملةَ ما يُستنكر من أحوال المصلوب إلى خِلافها، وتأَوّلَ فيها تأويلات أراك فيها وبها ما تقضي منْه العجَب: عُلوٌّ في الحياةِ وفي المـمـاتِ *** بحَقٍّ أَنت إحدى المعـجـزاتِ كأنّ الناسَ حَوْلَك حينَ قـامـوا *** وُفودُ نـداك أيّامَ الـصِّـلاتِ كأنك قائمٌ فـيهـم خـطـيبـاً *** وكلُّـهُـمُ قـيامٌ لـلـصَّـلاةِ مددتَ يَدَيْك نحوهُمُ احـتـفـاءً *** كمدِّهما إليهـم بِـالـهِـبَـاتِ ولما ضاق بطنُ الأرض عن أنْ *** يَضُمَّ عُلاكَ من بعد المـمـاتِ أصَاروا الجوَّ قبرَك واستَنَابُـوا *** عن الأكفانِ ثوبَ السَّـافـياتِ لعُظْمك في النفوس تبيتُ تُرعَى *** بحُـرَّاس وحُـفَّـاظٍ ِثِـقـاتِ وتُشعَلُ عندك الـنـيرانُ لـيلاً *** كذلـك كـنـتَ أيامَ الـحـياةِ ركبتَ مَطِيَّة، مـن قَـبـلُ زيدٌ *** عَلاَها في السِّنين الماضـياتِِ وتلك فـضـيلةٌ فـيهـا تَـأسّ *** تُباعد عنك تَـعـييرَ الـعُـداةِ أسأتَ إلى الحوادث فاستثـارت *** فأنت قتيلُ ثَـأْرِ الـنـائبـاتِ ولَوْ أنّي قَدَرتُ على قِـيامـي *** بفَرْضك والحقوق الواجبـاتِ مَلأْتُ الأَرض من نَظْم القوافي *** ونُحْتُ بها خِلال الـنـائحـاتِ ولكنّي أُصَبِّر عنك نـفـسـي *** مخافةَ أن أُعَدَّ من الـجُـنَـاةِ وما لك تُرْبةٌ فأقول تُـسْـقَـى *** لأنّك نُصْبُ هَطْلِ الهاطـلات عليك تحيّةُ الرَّحمـن تَـتْـرَى *** برَحْـمَـاتٍ غـوادٍ رائحـاتِ ومما هو من هذا الباب، إلاّ أنه مع ذلك احتجاج عَقْلي صحيح، قولُ المتنبي: وَمَا التأنيثُ لاسم الشمسِ عَيْبٌ *** ولا التذكيرُ فخرٌ للـهـلال فحقّ هذا أن يكون عنوانَ هذا الجنس، وفي صدر صحيفته، وطِرازًا لديباجته، لأنه دفعٌ لنقص، وإبطالٌ له، من حيث يَشْهَدُ العقل للحجّة التي نطق بها بالصّحة، وذلك أن الصِّفات الشريفةَ شريفةٌ بأنفُسها، وليس شرفُها من حيث الموصوف، وكيف والأوصاف سبب التفاضُل بين الموصوفات، فكان الموصوفُ شريفاً أوغيرَ شريف من حيث الصفة، ولم تكن الصفة شريفةً وخسيسةً من حيث الموصوف، وإذا كان الأمر كذلك وجب أن لا يعترض على الصفات الشريفة بشيءٍ إن كان نقصاً، فهو في خارج منها، وفيما لا يرجع إليها أنفُسِها ولا حقيقتها، وذلك الخارج هاهنا هو كون الشخص على صورةٍ دون صورة، وإذا كان كذلك، كان الأمر: مقدارُ ضَرَر التأنيث إذا وُجد في الخلقة على الأوصاف الشريفة، مقدارُه إذا وُجد في الاسم الموضوع للشيء الشريف، لأنه في أَنْ لا تأثير له من طريق العقل في تلك الأوصاف في الحالين على صورة واحدة، لأن الفضائل التي بها فُضِّل الرجل على المرأة، لم تكن فضائلَ لأنها قارنت صورة التذكير وخِلْقته، ولا أوجبت ما أوجبت من التعظيم لاقترانها بهذه الخلقة دون تلك، بل إنماأوجبته لأنفُسِها ومن حيث هي، كما أنّ الشيء لم يكن شريف وغير شريف من حيث أُنِّث اسمُه وذُكِّر، بل يثبُت الشرفُ وغيرُ الشرف للمسمَّيات من حيث أنفُسُها وأوصافُها، لا من حيث أسماؤها، لاستحالة أن يتعدَّى من لفظٍ، هو صوتٌ مسموع، نقصٌ وفضلٌ إلى ما جُعل علامةً له فاعرفه. واعلم أن هذا هو الصحيح في تفسير هذا البيت، والطريقة المستقيمة في الموازنة بين تأنيث الخِلقة وتأنيث الاسم، لا أن يقال إنّ المعنى أن المرأة إذا كانت في كمال الرجل من حيث العقل والفضل وسائر الخلال الممدوحة، كانت من حيث المعنى رجلاً، وإن عُدَّت في الظاهر امرأةً، لأجل أنه يفسُد من وجهين: أحدهما أنه قال ولا التذكير فخر للهلال، ومعلومٌ أنه لا يريد أن يقول إن الهلال وإن ذكِّر في لفظه فهو مؤنَّث في المعنى، لفساد ذلك، ولأجل أنه إن كان يريد أن يضربَ تأنيث اسم الشمس مثلاً لتأنيث المرأة، على معنى أنها في المعنى رجلٌ، وأن يُثبت لها تذكيراً، فأيُّ معنىً لأن يعود فَيُنْحِيَ على التذكير، ويُغضَّ منه ويقول ليس هو بفخر للهلال هذا بَيِّن التناقض.
|